الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ: الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ؛ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا، كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النَّصُّ الصَّرِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ خُلِقُوا لِلتَّعَبُّدِ لِلَّهِ، وَالدُّخُولِ تَحْتَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذَّارِيَات: 56- 57]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]. وَقَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 21]. ثُمَّ شَرَحَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فِي تَفَاصِيلَ السُّورَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إِلَى قَوْلِه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 177]. وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ مَا ذُكِرَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَوْلِه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النِّسَاء: 36]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالْعِبَادِةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِتَفَاصِيلِهَا عَلَى الْعُمُومِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالِانْقِيَادِ إِلَى أَحْكَامِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مَعْنَى التَّعَبُّدِ لِلَّهِ. وَالثَّانِي: مَا دَلَّ عَلَى ذَمِّ مُخَالَفَةِ هَذَا الْقَصْدِ مِنَ النَّهْيِ أَوَّلًا عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَذَمِّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ، وَإِيعَادِهِمْ بِالْعَذَابِ الْعَاجِلِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُخَالَفَاتِ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالِانْقِيَادُ إِلَى طَاعَةِ الْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ، وَالشَّهَوَاتِ الزَّائِلَةِ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُضَادًّا لِلْحَقِّ، وَعَدَّهُ قَسِيمًا لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ [ص: 26]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَات: 37- 39]. وَقَالَ فِي قَسِيمِه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَات: 40- 41]. وَقَالَ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجْم: 3- 4]. فَقَدْ حَصَرَ الْأَمْرَ فِي شَيْئَيْن: الْوَحْيِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَالْهَوَى، فَلَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ، وَحِينَ تَعَيَّنَ الْحَقُّ فِي الْوَحْيِ تَوَجَّهَ لِلْهَوَى ضِدَّهُ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مُضَادٌّ لِلْحَقِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الْجَاثِيَة: 23]. وَقَالَ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 71]. وَقَالَ: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 16]، وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 14]. وَتَأَمَّلْ؛ فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْهَوَى؛ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ وَلِمُتَّبِعِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا ذَمَّهُ.. فَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْخُرُوجَ عَنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالدُّخُولَ تَحْتَ التَّعَبُّدِ لِلْمَوْلَى. وَالثَّالِثُ: مَا عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَحْصُلُ مَعَ الِاسْتِرْسَالِ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالْمَشْيِ مَعَ الْأَغْرَاضِ؛ لِمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّهَارُجِ وَالتَّقَاتُلِ وَالْهَلَاكِ، الَّذِي هُوَ مُضَادٌّ لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَمِّ مَنِ اتَّبَعَ شَهَوَاتِهِ، وَسَارَ حَيْثُ سَارَتْ بِهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَا شَرِيعَةَ لَهُ يَتْبَعُهَا، أَوْ كَانَ لَهُ شَرِيعَةٌ دَرَسَتْ، كَانُوا يَقْتَضُونَ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ بِكَفِّ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ إِلَّا لِصِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، وَاطِّرَادُ الْعَوَائِدِ بِاقْتِضَائِهِ مَا أَرَادُوا مِنْ إِقَامَةِ صَلَاحِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا السِّيَاسَةَ الْمَدَنِيَّةَ؛ فَهَذَا أَمُرُّ قَدْ تَوَارَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى مُقْتَضَى تَشَهِّي الْعِبَادِ وَأَغْرَاضِهِمْ؛ إِذْ لَا تَخْلُو أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَمْسَةِ، أَمَّا الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ؛ فَظَاهِرٌ مُصَادَمَتُهَا لِمُقْتَضَى الِاسْتِرْسَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ؛ إِذْ يُقَالُ لَهُ: افْعَلْ كَذَا كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لَا، وَ لَا تَفْعَلْ كَذَا كَانَ لَكَ فِيهِ غَرَضٌ أَمْ لَا، فَإِنِ اتَّفَقَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ غَرَضٌ مُوَافِقٌ، وَهَوًى بَاعِثٌ عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، فَبِالْعَرْضِ لَا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ- وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الدُّخُولَ تَحْتَ خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ-؛ فَإِنَّمَا دَخَلَتْ بِإِدْخَالِ الشَّارِعِ لَهَا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَغَرَضٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ؟ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ، بَلْ فِي رَفْعِهِ مَثَلًا، كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ؟ فَكَمْ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَوَدُّ لَوْ كَانَ الْمُبَاحُ الْفُلَانِيُّ مَمْنُوعًا؛ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وُكِّلَ إِلَيْهِ مَثَلًا تَشْرِيعُهُ لِحَرَّمَهُ، كَمَا يَطْرَأُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِي حَقٍّ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ اخْتِيَارَهُ وَهَوَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ يَوَدُّ لَوْ كَانَ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ جَعْلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَوْجَبَهُ، ثُمَّ قَدْ يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْعَكْسِ، فَيُحِبُّ الْآنَ مَا يَكْرَهُ غَدًا، وَبِالْعَكْسِ، فَلَا يُسْتَتَبُّ فِي قَضِيَّةِ حُكْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَوَارَدُ الْأَغْرَاضُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَيَنْخَرِمُ النِّظَامُ بِسَبَبِ فَرْطِ اتِّبَاعِ الْأَغْرَاضِ وَالْهَوَى؛ فَسُبْحَانَ الَّذِي أَنْزَلَ فِي كِتَابِه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 71]. فَإِذًا؛ إِبَاحَةُ الْمُبَاحِ مَثَلًا لَا تُوجِبُ دُخُولَهُ بِإِطْلَاقٍ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ كَانَ قَضَاءً مِنَ الشَّارِعِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ تَابِعًا لِوَضْعِ الشَّارِعِ، وَغَرَضُهُ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالِاسْتِرْسَالِ الطَّبِيعِيِّ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَضْعُ الشَّرَائِعِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا، أَوْ لِحِكْمَةٍ؛ فَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 115]. وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدُّخَان: 38- 39]. وَإِنْ كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، فَالْمَصْلَحَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعِبَادِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى اللَّهِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ وَيَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمَصَالِحِ إِلَيْهِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا رُجُوعُهَا إِلَى الْعِبَادِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى أَغْرَاضِهِمْ، لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ وَمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَالشَّرِيعَةُ تَكَفَّلَتْ لَهُمْ بِهَذَا الْمَطْلَبِ فِي ضِمْنِ التَّكْلِيفِ؛ فَكَيْفَ يُنْفَى أَنْ تُوضَعَ الشَّرِيعَةُ عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِ الْعِبَادِ وَدَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ؟ وَأَيْضًا؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ عَلَى وِفْقِ أَغْرَاضِ الْعِبَادِ، وَثَبَتَتْ لَهُمْ حُظُوظُهُمْ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُحَقِّقُونَ، أَوْ وُجُوبًا عَلَى مَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ حَقًّا؛ كَانَ مَا يُنَافِيهِ بَاطِلًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ وَضْعَ الشَّرِيعَةِ إِذَا سُلِّمَ أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ؛ فَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَعَلَى الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ لَا عَلَى مُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ؛ وَلِذَا كَانَتِ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ ثَقِيلَةً عَلَى النُّفُوسِ، وَالْحِسُّ وَالْعَادَةُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مُخْرِجَةٌ لَهُ عَنْ دَوَاعِي طَبْعِهِ وَاسْتِرْسَالِ أَغْرَاضِهِ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْ تَحْتِ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَهُوَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ، أَمَّا أَنَّ مَصَالِحَ التَّكْلِيفِ عَائِدَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَصَحِيحٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَيْلُهُ لَهَا خَارِجًا عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لَهَا بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُنَاوِلَهَا إِيَّاهُ الشَّرْعُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَبِهِ يُتَبَيَّنُ أَنَّ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ فِي ثُبُوتِ الْحَظِّ وَالْغَرَضِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ؛ لَا مِنْ حَيْثُ اقْتَضَاهُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا هَاهُنَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ كَانَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ الْهَوَى بِإِطْلَاقٍ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ التَّخْيِيرِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَمَلِ مِنْ حَامِلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَدَاعٍ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِتَلْبِيَةِ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ مَدْخَلٌ، فَلَيْسَ إِلَّا مُقْتَضَى الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْحَقِّ بِإِطْلَاقٍ، فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رِضَيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأ: «إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتَضِيعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِي الصَّلَاةِ، وَيَقْصُرُونَ فِي الْخُطْبَةِ، يَبْدَءُونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتَضِيعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ». فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ؛ فَكَوْنُهَا بَاطِلَةً ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْعَادَاتُ؛ فَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَوُجُودُهَا فِي ذَلِكَ وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي عَدَمِ أَخْذِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُنْعِمِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ. وَكُلُّ فِعْلٍ كَانَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ التَّخْيِيرِ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ وَحَقٌّ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهِ مِنْ طَرِيقِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَوَافَقَ فِيهِ صَاحِبُهُ قَصْدَ الشَّارِعِ؛ فَكَانَ كُلُّهُ صَوَابًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا إِنِ امْتَزَجَ فِيهِ الْأَمْرَانِ؛ فَكَانَ مَعْمُولًا بِهِمَا؛ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَالسَّابِقِ، فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ أَمْرَ الشَّارِعِ بِحَيْثُ قَصَدَ الْعَامِلُ نَيْلَ غَرَضِهِ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي إِلْحَاقِهِ بِالْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا كَانَ الْمُتَّبَعُ فِيهِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ خَاصَّةً لِأَنَّ طَلَبِ الْحُظُوظِ وَالْأَغْرَاضِ لَا يُنَافِي وَضْعَ الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ أَيْضًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَإِذَا جُعِلَ الْحَظُّ تَابِعًا؛ فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْعَامِلِ. إِلَّا أَنَّ هُنَا شَرْطًا مُعْتَبَرًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي حَصَلَ أَوْ يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُهُ مِمَّا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَهُ لِتَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَإِلَّا؛ فَلَيْسَ السَّابِقُ فِيهِ أَمْرَ الشَّارِعِ، وَبَيَانُ هَذَا الشَّرْطِ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ وَالسَّابِقُ هُوَ الْهَوَى وَصَارَ أَمْرُ الشَّارِعِ كَالتَّبَعِ؛ فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَعَلَامَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَحَرِّي قَصْدِ الشَّارِعِ وَعَدَمُ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ عَمَلٍ شَارَكَ الْعَامِلُ فِيهِ هَوَاهُ فَانْظُرْ فَإِنْ كَفَّ هَوَاهُ وَمُقْتَضَى شَهْوَتِهِ عِنْدَ نَهْيِ الشَّارِعِ؛ فَالْغَالِبُ وَالسَّابِقُ لِمِثْلِ هَذَا أَمْرُ الشَّارِعِ، وَهَوَاهُ تَبَعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ عِنْدَ وُرُودِ النَّهْيِ عَلَيْهِ؛ فَالْغَالِبُ وَالسَّابِقُ لَهُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَإِذْنُ الشَّارِعِ تَبَعٌ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَهُ؛ فَوَاطِئُ زَوْجَتِهِ وَهَيَ طَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَابِعًا لِهَوَاهُ، أَوْ لِإِذْنِ الشَّارِعِ، فَإِنْ حَاضَتْ فَانْكَفَّ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَوَاهُ تَبَعٌ، وَإِلَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ السَّابِقُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى طَرِيقٌ إِلَى الْمَذْمُومِ وَإِنْ جَاءَ فِي ضِمْنِ الْمَحْمُودِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُضَادٌّ بِوَضْعِهِ لِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ؛ فَحَيْثُمَا زَاحَمَ مُقْتَضَاهَا فِي الْعَمَلِ كَانَ مَخُوفًا. أَمَّا أَوَّلًا؛ فَإِنَّهُ سَبَبُ تَعْطِيلِ الْأَوَامِرِ وَارْتِكَابِ النَّوَاهِي؛ لِأَنَّهُ مُضَادٌّ لَهَا. وَأَمَا ثَانِيًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا اتُّبِعَ وَاعْتِيدَ، رُبَّمَا أَحَدَثَ لِلنَّفْسِ ضَرَاوَةً وَأُنْسًا بِهِ، حَتَّى يَسْرِيَ مَعَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مَخْلُوقٌ مَعَهَا مُلْصَقٌ بِهَا فِي الْأَمْشَاجِ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِالِامْتِثَالِ الشَّرْعِيِّ فَيَصِيرُ سَابِقًا لَهُ، وَإِذْ صَارَ سَابِقًا لَهُ صَارَ الْعَمَلُ الِامْتِثَالِيُّ تَبَعًا لَهُ وَفِي حُكْمِهِ؛ فَبِسُرْعَةٍ مَا يَصِيرُ صَاحِبُهُ إِلَى الْمُخَالَفَةِ، وَدَلِيلُ التَّجْرِبَةِ حَاكِمٌ هُنَا. وَأَمَّا ثَالِثًا؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِمُقْتَضَى الِامْتِثَالِ مِنْ نَتَائِجِ عَمَلِهِ الِالْتِذَاذُ بِمَا هُوَ فِيهِ، وَالنَّعِيمُ بِمَا يَجْتَنِيهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْفُهُومِ، وَانْفِتَاحِ مَغَالِيقِ الْعُلُومِ، وَرُبَّمَا أُكْرِمَ بِبَعْضِ الْكَرَامَاتِ، أَوْ وُضِعَ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ؛ فَانْحَاشَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَحَلَّقُوا عَلَيْهِ، وَانْتَفَعُوا بِهِ، وَأَمُّوهُ لِأَغْرَاضِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى السَّالِكِينَ طُرُقَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْخَلْوَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَسَائِرِ الْمُلَازِمِينَ لِطُرِقِ الْخَيْرِ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَانَ لِلنَّفْسِ بِهِ بَهْجَةٌ وَأُنْسٌ وَغِنًى وَلَذَّةٌ وَنَعِيمٌ، بِحَيْثُ تَصْغُرُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَحْظَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَقَاتَلُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ، أَوْ كَمَا قَالَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَعَلَّ النَّفْسَ تَنْزِعُ إِلَى مُقَدِّمَاتِ تِلْكَ النَّتَائِجِ، فَتَكُونُ سَابِقَةً لِلْأَعْمَالِ، وَهُوَ بَابُ السُّقُوطِ عَنْ تِلْكَ الرُّتْبَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ الْهَوَى الْمَحْمُودُ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَقَدْ يَصِيرُ إِلَى الْمَذْمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَدَلِيلُ هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَحْوَالِ السَّالِكِينَ وَأَخْبَارِ الْفُضَلَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْرِيرِهِ هَاهُنَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُحْتَالُ بِهَا عَلَى أَغْرَاضِهِ فَتَصِيرُ كَالْآلَةِ الْمُعَدَّةِ لِاقْتِنَاصِ أَغْرَاضِهِ؛ كَالْمُرَائِي يَتَّخِذُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ سُلَّمًا لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَبَيَانُ هَذَا ظَاهِرٌ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَآلَاتِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَجَدَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى جُمْلَةً عِنْدِ الْكَلَامِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ فِي أَسْبَابِهَا، وَلَعَلَّ الْفِرَقَ الضَّالَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثَ أَصْلُ ابْتِدَاعِهَا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهَا، دُونَ تَوَخِّي مَقَاصِدِ الشَّرْعِ.
الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَان: مَقَاصِدٌ أَصْلِيَّةٌ، وَمَقَاصِدٌ تَابِعَةٌ. فَأَمَّا الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ؛ فَهِيَ الَّتِي لَا حَظَّ فِيهَا لِلْمُكَلَّفِ، وَهَى الضَّرُورِيَّاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا حَظَّ فِيهَا لِلْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا قِيَامٌ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ، لَا تَخْتَصُّ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلَا بِصُورَةٍ دُونَ صُورَةٍ، وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لَكِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى ضَرُورِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ، وَإِلَى ضَرُورِيَّةٍ كِفَائِيَّةٍ. فَأَمَّا كَوْنُهَا عَيْنِيَّةً؛ فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ دِينِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَبِحِفْظِ نَفْسِهِ قِيَامًا بِضَرُورِيَّةِ حَيَاتِهِ، وَبِحِفْظِ عَقْلِهِ حِفْظًا لِمَوْرِدِ الْخِطَابِ مِنْ رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَبِحِفْظِ نَسْلِهِ الْتِفَاتًا إِلَى بَقَاءِ عِوَضِهِ فِي عِمَارَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَرَعْيًا لَهُ عَنْ وَضْعِهِ فِي مَضْيَعَةِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ الْعَاطِفَةِ بِالرَّحْمَةِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ، وَبِحِفْظِ مَالِهِ اسْتِعَانَةً عَلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ خِلَافَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَحَجَرَ عَلَيْهِ، وَلَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِ، فَمِنْ هُنَا صَارَ فِيهَا مَسْلُوبَ الْحَظِّ، مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ صَارَ لَهُ فِيهَا حَظٌّ، فَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَابِعَةٍ لِهَذَا الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ. وَأَمَّا كَوْنُهَا كَفَائِيَّةً؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَنُوطَةً بِالْغَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ؛ لِتَسْتَقِيمَ الْأَحْوَالُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَقُومُ الْخَاصَّةُ إِلَّا بِهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُكَمِّلٌ لِلْأَوَّلِ؛ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ فِي كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا؛ إِذْ لَا يَقُومُ الْعَيْنِيُّ إِلَّا بِالْكِفَائِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِفَائِيَّ قِيَامٌ بِمَصَالِحَ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ؛ فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَأْمُورٌ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ تَخْصِيصٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إِذْ ذَاكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَإِلَّا صَارَ عَيْنِيًّا، بَلْ بِإِقَامَةِ الْوُجُودِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِهِ، وَمَا هُيِّئَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِجَمِيعِ أَهْلِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ بِقَبِيلِةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ الْخَلْقَ خَلَائِفَ فِي إِقَامَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الْعَامَّةِ حَتَّى قَامَ الْمُلْكُ فِي الْأَرْضِ. وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ الْكِفَائِيَّ مُعَرًّى مِنَ الْحَظِّ شَرْعًا أَنَّ الْقَائِمِينَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَمْنُوعُونَ مِنْ اسْتِجْلَابِ الْحُظُوظِ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا قَامُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ لِوَالٍ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً مِمَّنْ تَوَلَّاهُمْ عَلَى وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ أُجْرَةً عَلَى قَضَائِهِ، وَلَا لِحَاكِمٍ عَلَى حُكْمِهِ، وَلَا لِمُفْتٍ عَلَى فَتْوَاهُ، وَلَا لِمُحْسِنٍ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَلَا لِمُقْرِضٍ عَلَى قَرْضِهِ، وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي لِلنَّاسِ فِيهَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَتِ الرُّشَا وَالْهَدَايَا الْمَقْصُودُ بِهَا نَفْسُ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِجْلَابَ الْمَصْلَحَةِ هُنَا مُؤَدٍّ إِلَى مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ تُضَادُّ حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ فِي نَصْبِ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ يَجْرِي الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَيَصْلُحُ النِّظَامُ، وَعَلَى خِلَافِهِ يَجْرِي الْجَوْرُ فِي الْأَحْكَامِ، وَهَدْمُ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَبِالنَّظَرِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْعَيْنِيَّةَ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا، وَلَا قُصْدُ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا، وَلَا نَيْلُ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ بِهَا، وَأَنَّ تَرْكَهَا سَبَبٌ لِلْعِقَابِ وَالْأَدَبِ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مُوجِبٌ تَرْكَهَا لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهَا أَيَّ مَفْسَدَةٍ فِي الْعَالَمِ. وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ التَّابِعَةُ؛ فَهِيَ الَّتِي رُوعِيَ فِيهَا حَظُّ الْمُكَلَّفِ، فَمِنْ جِهَتِهَا يَحْصُلُ لَهُ مُقْتَضَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ نَيْلِ الشَّهَوَاتِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمُبَاحَاتِ، وَسَدِّ الْخَلَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ الْحَكِيمِ الْخَبِيِرِ حَكَمَتْ أَنَّ قِيَامَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِنَّمَا يَصْلُحُ وَيَسْتَمِرُّ بِدَوَاعٍ مِنْ قِبَلِ الْإِنْسَانِ تَحْمِلُهُ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَخَلَقَ لَهُ شَهْوَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِذَا مَسَّهُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، لِيُحَرِّكَهُ ذَلِكَ الْبَاعِثُ إِلَى التَّسَبُّبِ فِي سَدِّ هَذِهِ الْخَلَّةِ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ لَهُ الشَّهْوَةَ إِلَى النِّسَاءِ لِتُحَرِّكَهُ إِلَى اكْتِسَابِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ خَلَقَ لَهُ الِاسْتِضْرَارَ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالطَّوَارِقِ الْعَارِضَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَى اكْتِسَابِ اللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ ثُمَّ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبِيِّنَةً أَنَّ الِاسْتِقْرَارَ لَيْسَ هُنَا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدَّارُ مَزْرَعَةٌ لِدَارٍ أُخْرَى، وَأَنَّ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ وَالشَّقَاوَةَ الْأَبَدِيَّةَ هُنَالِكَ، لَكِنَّهَا تَكْتَسِبُ أَسْبَابَهَا هُنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ أَوْ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، فَأَخَذَ الْمُكَلَّفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْأُمُورِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَغْرَاضِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، لِضَعْفِهِ عَنْ مُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَطَلَبَ التَّعَاوُنَ بِغَيْرِهِ، فَصَارَ يَسْعَى فِي نَفْعِ نَفْسِهِ وَاسْتِقَامَةِ حَالِهِ بِنَفْعِ غَيْرِهِ، فَحَصَلَ الِانْتِفَاعُ لِلْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ إِنَّمَا يَسْعَى فِي نَفْعِ نَفْسِهِ. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ صَارَتِ الْمَقَاصِدُ التَّابِعَةُ خَادِمَةً لِلْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَمُكَمِّلَةً لَهَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكُلِّفَ بِهَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحُظُوظِ، أَوْ لَكُلِّفَ بِهَا مَعَ سَلْبِ الدَّوَاعِي الْمَجْبُولِ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَهُ وَسِيلَةً إِلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَجَعَلَ الِاكْتِسَابَ لِهَذِهِ الْحُظُوظِ مُبَاحًا لَا مَمْنُوعًا، لَكِنْ عَلَى قَوَانِينَ شَرْعِيَّةٍ هِيَ أَبْلَغُ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَأَجْرَى عَلَى الدَّوَامِ مِمَّا يَعُدُّهُ الْعَبْدُ مَصْلَحَةً {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَة: 216] وَلَوْ شَاءَ لَمَنَعَنَا فِي الِاكْتِسَابِ الْأُخْرَوِيِّ الْقَصْدَ إِلَى الْحُظُوظِ، فَإِنَّهُ الْمَالِكُ وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَلَكِنَّهُ رَغَّبَنَا فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْنَا بِوَعْدٍ حَظِيٍّ لَنَا، وَعَجَّلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ حُظُوظًا كَثِيرَةً نَتَمَتَّعُ بِهَا فِي طَرِيقِ مَا كَلَّفَنَا بِهِ، فَبِهَذَا الْحَظِّ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ تَوَابِعٌ، وَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْأُصُولُ؛ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِيهُ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ لُطْفُ الْمَالِكِ بِالْعَبِيدِ.
قَدْ تَحَصَّلَ إِذًا أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ، كَقِيَامِ الْإِنْسَانِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي الِاقْتِيَاتِ، وَاتِّخَاذِ السَّكَنِ، وَالْمَسْكَنِ، وَاللِّبَاسِ، وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنَ الْمُتَمِّمَاتِ؛ كَالْبُيُوعِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالْأَنْكِحَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الِاكْتِسَابِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْهَيَاكِلُ الْإِنْسَانِيَّةُ. وَالثَّانِي: مَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ، كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ؛ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ؛ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَالْوِزَارَةِ، وَالنِّقَابَةِ، وَالْعِرَافَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَإِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، وَالْجِهَادِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي شُرِعَتْ عَامَّةً لِمَصَالِحَ عَامَّةٍ إِذَا فُرِضَ عَدَمُهَا أَوْ تَرْكُ النَّاسِ لَهَا انْخَرَمَ النِّظَامُ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَمَّا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ، وَبَاعِثٌ مِنْ نَفْسِهِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى طَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الدَّاعِي قَوِيًّا جِدًّا بِحَيْثُ يَحْمِلُهُ قَهْرًا عَلَى ذَلِكَ؛ لَمْ يُؤَكَّدْ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ جُعِلَ الِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ وَالنِّكَاحُ عَلَى الْجُمْلَةِ مَطْلُوبًا طَلَبَ النَّدْبِ لَا طَلَبَ الْوُجُوبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَأْتِي فِي مَعْرِضِ الْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَة: 275]. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الْجُمْعَة: 10]. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَة: 198]. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَاف: 32]. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 172]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَخْذَ النَّاسِ لَهُ كَأَخْذِ الْمَنْدُوبِ بِحَيْثُ يَسَعُهُمْ جَمِيعًا التَّرْكُ؛ لَأَثِمُوا لِأَنَّ الْعَالَمَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاكْتِسَابِ، فَهَذَا مِنَ الشَّارِعِ؛ كَالْحِوَالَةِ عَلَى مَا فِي الْجِبِلَّةِ مِنَ الدَّاعِي الْبَاعِثِ عَلَى الِاكْتِسَابِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ أَوْ جِهَةُ نَازِعٍ طَبْعِيٍّ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً، كَمَا لَوْ فُرِضَ هَذَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قِسْمَان: قِسْمٌ يَكُونُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ فِيهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ؛ كَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ مُبَاشَرَةً. وَقِسْمٌ يَكُونُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الْحَظِّ فِي الْغَيْرِ؛ كَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَالِاكْتِسَابِ بِمَا لِلْغَيْرِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ؛ كَالْإِجَارَاتِ وَالْكِرَاءِ، وَالتِّجَارَةِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الصَّنَائِعِ وَالِاكْتِسَابَاتِ، فَالْجَمِيعُ يَطْلُبُ الْإِنْسَانُ بِهَا حَظَّهُ، فَيَقُومُ بِذَلِكَ حَظُّ الْغَيْرِ، خِدْمَةً دَائِرَةً بَيْنَ الْخَلْقِ كَخِدْمَةِ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْضًا، حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصْلَحَةُ لِلْجَمِيعِ. وَيَتَأَكَّدُ الطَّلَبُ فِيمَا فِيهِ حَظُّ الْغَيْرِ عَلَى طَلَبِ حَظِّ النَّفْسِ الْمُبَاشِرِ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ هَكَذَا وَكَانَتْ جِهَةُ الدَّاعِي كَالْمَتْرُوكَةِ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ، وَكَانَ مَا يُنَاقِضُ الدَّاعِيَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، بَلْ هُوَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ؛ أُكِّدَتْ جِهَةُ الْكَفِّ هُنَا بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِيعَادِ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ؛ كَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَالزِّنَا، وَالْخَمْرِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الطَّبْعَ النَّازِعَ إِلَى طَلَبِ مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ، وَدَرْءِ مَفْسَدَتِهِ يَسْتَدْعِي الدُّخُولَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ جَرَى الرَّسْمُ الشَّرْعِيُّ فِي قِسْمِ الْكِفَايَةِ مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي أَوْ أَكْثَرِ أَنْوَاعِهِ؛ فَإِنَّ عِزَّ السُّلْطَانِ، وَشَرَفَ الْوِلَايَاتِ، وَنَخْوَةَ الرِّيَاسَةِ، وَتَعْظِيمَ الْمَأْمُورِينَ لِلْآمِرِ مِمَّا جُبِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى حُبِّهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا جَارِيًا مَجْرَى النَّدْبِ لَا الْإِيجَابِ، بَلْ جَاءَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِالشُّرُوطِ الْمُتَوَقَّعِ خِلَافُهَا، وَأَكَّدَ النَّظَرَ فِي مُخَالَفَةِ الدَّاعِي؛ فَجَاءَ كَثِيرٌ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَمَّا تَنْزِعُ إِلَيْهِ النَّفْسُ فِيهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] إِلَى آخِرِهَا. وَفِي الْحَدِيثَ: «لَا تَطْلُبُ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ طَلَبْتَهَا بِاسْتِشْرَافِ نَفْسٍ وُكِّلْتَ إِلَيْهَا» أَوْ كَمَا قَالَ. وَجَاءَ النَّهْيُ عَنْ غُلُولِ الْأُمَرَاءِ، وَعَنْ عَدَمِ النُّصْحِ فِي الْإِمَارَةِ؛ لَمَّا كَانَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّاعِي مِنَ النَّفْسِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي الْأَصْلِ، بَلْ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا فِي مَصَالِحِ الْخَلْقِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا قِسْمُ الْأَعْيَانِ؛ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ مَقْصُودٌ، أُكِّدَ الْقَصْدُ إِلَى فِعْلِهِ بِالْإِيجَابِ، وَنَفْيِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَأَعْنِي بِالْحَظِّ الْمَقْصُودِ مَا كَانَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِوَضْعِهِ السَّبَبَ [الْبَاعِثَ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ بِوَضْعِهِ السَّبَبَ]؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرْعَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا لِنُحْمَدَ عَلَيْهَا، وَلَا لِنَنَالَ بِهَا فِي الدُّنْيَا شَرَفًا وَعِزًّا أَوْ شَيْئًا مِنْ حُطَامِهَا، فَإِنَّ هَذَا ضِدُّ مَا وُضِعَتْ لَهُ الْعِبَادَاتُ، بَلْ هِيَ خَالِصَةٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَر: 3]. وَهَكَذَا شُرِعَتْ أَعْمَالُ الْكِفَايَةِ لَا لِيُنَالَ بِهَا عِزُّ السُّلْطَانِ، وَنَخْوَةُ الْوِلَايَةِ، وَشَرَفُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّبَعِ، فَإِنَّ عِزَّ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَشَرَفَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يُنْكَرُ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ الْعِزَّةِ فِي الْوِلَايَاتِ مَوْجُودٌ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ شَرْعًا، مِنْ حَيْثُ يَأْتِي تَبَعًا لِلْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَهَكَذَا الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ لَا يُقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ حَسْبَمَا حَدَّهُ الشَّارِعُ غَيْرِ مُنْكِرٍ وَلَا مَمْنُوعٍ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ مُتَأَكَّدٌ، فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِي الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَعَلَى الْعَامَّةِ الْقِيَامُ بِوَظَائِفِهِ مِنْ بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} الْآيَةَ [طه: 132]. وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاق: 2- 3]. وَفِي الْحَدِيثَ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ، تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِهِ». إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْمُكَلَّفِ بِحُقُوقِ اللَّهِ سَبَبٌ لِإِنْجَازِ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرِّزْقِ.
فَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ حَظٌّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ حَظُّهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي مِنَ الشَّارِعِ، وَمَا فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ حَظٌّ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ يَحْصُلُ فِيهِ الْعَمَلُ الْمُبَرَّأُ مِنَ الْحَظِّ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَوَّلًا مِنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنِ احْتِرَامِ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْفَضْلِ وَالْعَدَالَةِ، وَجَعْلِهِمْ عُمْدَةً فِي الشَّرِيعَةِ فِي الْوِلَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَإِقَامَةِ الْمَعَالِمِ الدِّينِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ زَائِدًا إِلَى مَا جُعِلَ لَهُمْ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ لَهُمْ، وَوُضِعَ الْقَبُولُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يُحِبَّهُمْ النَّاسُ وَيُكْرِمُونَهُمْ وَيُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمَا يُخَصُّونَ بِهِ مِنِ انْشِرَاحِ الصُّدُورِ، وَتَنْوِيرِ الْقُلُوبِ، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَالْإِتْحَافِ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ مُسْنَدًا إِلَى رَبِّ الْعِزَّة: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارِبَةِ». وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ هَذَا وَصَفُهُ قَائِمًا بِوَظِيفَةٍ عَامَّةٍ لَا يَتَفَرَّغُ بِسَبَبِهَا لِأُمُورِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ وَنِيلِ حُظُوظِهِ؛ وَجَبَ عَلَى الْعَامَّةِ أَنْ يَقُومُوا لَهُ بِذَلِكَ، وَيَتَكَفَّلُوا لَهُ بِمَا يُفَرِّغُ بَالَهُ لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ مِنْ بُيُوتِ أَمْوَالِهِمُ الْمُرْصَدَةِ لِمَصَالِحِهِمْ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَيْلِ حَظِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَأَنْتَ تَرَاهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَيْلِ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي طَرِيقِ تَجَرُّدِهِ عَنْ حُظُوظِهِ، وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَعْظَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّ اكْتِسَابَ الْإِنْسَانِ لِضَرُورِيَّاتِهِ فِي ضِمْنِ قَصْدِهِ إِلَى الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَتَنَعَّمُ بِهَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ أَكْلَ الْمُسْتَلِذَّاتِ، وَلِبَاسَ اللَّيْنَاتِ، وَرُكُوبَ الْفَارِهَاتِ، وَنِكَاحَ الْجَمِيلَاتِ قَدْ تَضَمَّنَ سَدَّ الْخَلَّاتِ وَالْقِيَامَ بِضَرُورَةِ الْحَيَاةِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ضَرُورِيٌّ لَا حَظَّ فِيهِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي اكْتِسَابِهِ بِالتِّجَارَاتِ وَأَنْوَاعِ البِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ قِيَامًا بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقِ الْحَظِّ؛ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَظٌّ لَهُ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ غَرَضٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَى حَظِّهِ، وَكَوْنُهُ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً غَيْرُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَهَكَذَا نَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَسَائِرِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ شَرَعًا مِنْ حَيَوَانٍ عَاقِلٍ وَغَيْرِ عَاقِلٍ، وَسَائِرِ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى الْحَظِّ الْمَطْلُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي اعْتِبَارِ حُظُوظِ الْمُكَلَّفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِسْمِ الْكِفَايَةِ؛ وَجَدْنَا الْأَعْمَالَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حَظُّ الْمُكَلَّفِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى حَالٍ، وَذَلِكَ الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ وَالْمَنَاصِبُ الْعَامَّةُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَقِسْمٌ اعْتُبِرَ فِيهِ ذَلِكَ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْغَيْرِ فِي طَرِيقِ مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ؛ كَالصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الْعَادِيَّةِ كُلِّهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ وَاسْتِجْلَابِهِ حَظَّهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِجْلَابُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِيهِ بِالْعَرْضِ. وَقِسْمٌ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا؛ فَيَتَجَاذَبُهُ قَصْدُ الْحَظِّ وَلَحْظُ الْأَمْرِ الَّذِي لَا حَظَّ فِيهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ فِي الْعُمُومِ وَلَيْسَتْ خَاصَّةً، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا وِلَايَةُ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَالْأَحْبَاسِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْأَذَانُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ يَصِحُّ فِيهَا التَّجَرُّدُ مِنَ الْحَظِّ، وَمِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ وَأَنَّهَا كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ الْخَاصَّةِ بِالْإِنْسَانِ فِي الِاكْتِسَابِ يَدْخُلُهَا الْحَظُّ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي هَذَا، فَإِنَّ جِهَةَ الْأَمْرِ بِلَا حَظٍّ غَيْرُ وَجْهِ الْحَظِّ؛ فَيُؤْمَرُ انْتِدَابًا أَنْ يَقُومَ بِهِ لِحَظٍّ، ثُمَّ يُبْذَلُ لَهُ الْحَظُّ فِي مَوْطِنِ ضَرُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، حِينَ لَا يَكُونُ ثُمَّ قَائِمٌ بِالِانْتِدَابِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 6]. وَانْظُرْ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي أُجْرَةِ الْقَسَّامِ وَالنَّاظِرِ فِي الْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ، وَتَعْلِيمِ الْعُلُومِ عَلَى تَنَوُّعِهَا؛ فَفِي ذَلِكَ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْقِسْمَ.
مَا فِيهِ حَظُّ الْعَبْدِ مَحْضًا- مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ- يَتَأَتَّى تَخْلِيصُهُ مِنَ الْحَظِّ؛ فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا؛ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا أُذِنَ فِيهِ أَوْ أُمِرَ بِهِ، فَإِذَا تَلَقَّى الْإِذْنَ بِالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمَأْذُونُ فِيهِ هَدِيَّةً مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ؛ صَارَ مُجَرَّدًا مِنَ الْحَظِّ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا لَبَّى الطَّلَبَ بِالِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِمَا سِوَاهُ تَجَرَّدَ عَنِ الْحَظِّ، وَإِذَا تَجَرَّدَ مِنَ الْحَظِّ سَاوَى مَا لَا عِوَضَ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ لَمَّا صَارَ مُلْحَقًا بِهِ فِي الْقَصْدِ؟ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنَ النَّظَر: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْحُكْمِ إِلَى مَا سَاوَاهُ فِي الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ قِسْمَ الْحَظِّ هُنَا قَدْ صَارَ عَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالْقَصْدِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مُخْتَصَّةٍ بِالْخَلْقِ فِي إِصْلَاحِ أَقْوَاتِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، أَوْ صَارَ صَاحِبُهُ عَلَى حَظٍّ مِنْ مَنَافِعِ الْخَلْقِ يُشْبِهُ الْخُزَّانَ عَلَى أَمْوَالِ بُيُوتِ الْأَمْوَالِ وَالْعُمَّالِ فِي أَمْوَالِ الْخَلْقِ، فَكَمَا لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً وَلَا عِوَضًا عَلَى مَا وَلِيَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَا تَعَبَّدَ بِهِ؛ كَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ يَقْتَطِعُهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ؛ كَمَا يَقْتَطِعُ الْوَالِي مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَبْذُلُهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؛ إِمَّا بِهَدِيَّةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِرْفَاقٍ، أَوْ إِعْرَاءٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ يُعِدُّ نَفْسَهُ فِي الْأَخْذِ كَالْغَيْرِ يَأْخُذُ الْغَيْرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ كَالْوَكِيلِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْقَيِّمِ بِمَصَالِحِهِ عَدَّ نَفْسَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهَا نَفْسٌ مَطْلُوبٌ إِحْيَاؤُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَمِثْلُ هَذَا مَحْكِيٌّ الْتِزَامُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ، بَلْ هُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الِاكْتِسَابِ مَاهِرِينَ وَدَائِبِينَ وَمُتَابِعِينَ لِأَنْوَاعِ الِاكْتِسَابَاتِ، لَكِنْ لَا لِيَدَّخِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا لِيَحْتَجِنُوا أَمْوَالَهُمْ، بَلْ لِيُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ، وَمَا حَسَّنَتْهُ الْعَوَائِدُ الشَّرْعِيَّةُ؛ فَكَانُوا فِي أَمْوَالِهِمْ كَالْوُلَاةِ عَلَى بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، وَهُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ حَسْبَمَا تَنُصُّهُ أَخْبَارُهُمْ؛ فَهَذَا وَجْهٌ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا عَامِلِينَ لِغَيْرِ حَظٍّ، عَامَلُوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ مُعَامَلَةَ مَا لَا حَظَّ فِيهِ الْبَتَّةَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُرَاعًى عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ قُلْنَا بِثُبُوتِ الْحَظِّ؛ أَنَّ طَلَبَ الْإِنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّ طَلَبَ الْحَاجَةِ إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِوُجُودِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ وَوُجُودِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ بِهِ؛ فَقَدْ خَرَجَ فِي نَفْسِهِ عَنْ مُقْتَضَى حَظِّهِ، ثُمَّ إِنَّ مُعَامَلَةَ الْغَيْرِ فِي طَرِيقِ حَظِّ النَّفْسِ تَقْتَضِي مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْمُسَامَحَةِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَالنَّصِيحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَرْكِ الْغِشِّ كُلِّهِ، وَتَرْكِ الْمُغَابَنَةِ غَبْنًا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ، وَأَنْ لَا تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَا يُكْرَهُ شَرْعًا فَيَكُونُ طَرِيقًا إِلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى طَالِبِ حَظِّهِ بِحَظٍّ أَصْلًا؛ فَقَدْ آلَ الْأَمْرُ فِي طَلَبِ الْحَظِّ إِلَى عَدَمِ الْحَظِّ. هَذَا وَالْإِنْسَانُ بَعُدَ فِي طَلَبِ حَظِّهِ قَصْدًا؛ فَكَيْفَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ حَظِّهِ فِي أَعْمَالِهِ؟ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَى تَحَرِّي الْمَشْرُوعِ فِي الْأَعْمَالِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ وَلَا إِلَى الْعَادَاتِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ فِيمَا صَارَ بِالْقَصْدِ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ فَرْضَ هَذَا الْقَصْدِ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَ فَرْضِ طَلَبِ الْحَظِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِمَا يَقْتَضِي سَلْبَ الْحَظِّ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِمَا لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ إِلَّا بِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّهُ مَطْلُوبٌ بِهِ طَلَبًا شَرْعِيًّا، أَمْ لَا، فَحُكْمُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ الْبَتَّةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ فَالشَّارِعُ قَدْ طَلَبَ النَّصِيحَةَ مَثَلًا طَلَبًا جَازِمًا، بِحَيْثُ جَعَلَهُ الشَّارِعُ عُمْدَةَ الدِّينِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، وَتَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ فِي مَوَاضِعَ، فَلَوْ فَرَضْنَا تَوَقُّفَهَا عَلَى الْعِوَضِ أَوْ حَظٍّ عَاجِلٍ؛ لَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى اخْتِيَارِ النَّاصِحِ وَالْمَنْصُوحِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَكُونَ طَلَبُهَا جَازِمًا. وَأَيْضًا الْإِيثَارُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مَمْدُوحٌ فَاعِلُهُ؛ فَكَوْنُهُ مَعْمُولًا بِهِ عَلَى عِوَضٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إِيثَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيثَارِ تَقْدِيمُ حَظِّ الْغَيْرِ عَلَى حَظِّ النَّفْسِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ طَلَبِ الْعِوَضِ الْعَاجِلِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَطْلُوبَاتِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ، فَهَذَا وَجْهٌ نَظَرِيٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُقْتَضَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُرْجَعُ فِي الْحُكْمِ إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْحَظِّ، لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَثْبَتَ لِهَذَا الْعَامِلِ حَظَّهُ فِي عَمَلِهِ، وَجَعَلَهُ الْمُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِجَمِيعِهِ كَانَ سَائِغًا، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَدَّخِرَهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبْذُلَهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؛ فَهِيَ هَدِيَّةُ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ لَا يَقْبَلُهَا؟ وَهُوَ وَإِنْ أَخَذَهَا بِالْإِذْنِ وَعَلَى مُقْتَضَى حُدُودِ الشَّرْعِ، فَإِنَّمَا أَخَذَ مَا جُعِلَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ، وَمِنْ حَيْثُ جُعِلَ لَهُ، وَبِالْقَصْدِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ. وَأَيْضًا؛ فَالْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا حَظٌّ؛ فَهِيَ وَسِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إِلَى حَظِّهِ، فَكَمَا لَمْ يَحْكُمْ لِلْمَقْصِدِ بِحُكْمِ الْوَسِيلَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَخْذِ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ حَظٌّ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى حَظِّهِ كَالْمُعَاوَضَاتِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يُحْكَمُ هُنَا لِلْمَأْذُونِ فِيهِ مِنَ الْحَظِّ بِحُكْمِ مَا تَوَسَّلَ بِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ وَجَدْنَا مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَثِيرًا يَدَّخِرُونَ الْأَمْوَالَ لِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَأْخُذُونَ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا اكْتَسَبُوهُ عَادُوا إِلَى الِاكْتِسَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَتَّخِذُونَ التِّجَارَةَ أَوِ الصِّنَاعَةَ عِبَادَةً لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، بَلْ كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّعَفُّفِ وَالْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ، فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ زُمْرَةِ الطَّالِبِينَ لِحُظُوظِهِمْ. وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِصِحَّةِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفِ حُظُوظُ أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهَا الشَّارِعُ لَهُمْ فَيَعْمَلُونَ فِي دُنْيَاهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَسَعُهُمْ مِنَ الْحُظُوظِ، وَيَعْمَلُونَ فِي أُخْرَاهُمْ كَذَلِكَ، فَالْجَمِيعُ مَبْنِيٌّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ تَكُونَ الْحُظُوظُ مَأْخُوذَةً مِنْ جِهَةٍ مِمَّا حَدَّ الشَّارِعُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ يَقَعُ فِي طَرِيقِهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّمَا حُدَّتُ الْحُدُودُ فِي طَرِيقِ الْحَظِّ أَنْ لَا يُخِلُّ الْإِنْسَانُ بِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَضَعْ تِلْكَ الْحُدُودَ إِلَّا لِتَجْرِيَ الْمَصَالِحُ عَلَى أَقْوَمِ سَبِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فُصِّلَتْ: 46]، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الْفَتْح: 10]. وَفِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذِكْرِ الظُّلْمِ وَتَحْرِيمِه: «يَا عِبَادِيَ! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا». وَلَا يَخْتَصُّ مِثْلُ هَذَ بِالْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ الْمَصَائِبُ النَّازِلَةُ بِالْإِنْسَانِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، لِقَوْلِه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30]. وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَة: 194]. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا تَفُوتُ الْحَصْرَ؛ فَالْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ طَلَبِهِ حَظَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ طَرِيقٌ إِلَى نِيلِ حَظِّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يُسَاوِي الْأَوَّلَ فِي امْتِنَاعِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ جُمْلَةً. وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي أَخْذِ حُظُوظِهِمْ عَلَى مَرَاتِبَ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْخُذُهَا إِلَّا بِغَيْرِ تَسَبُّبِهِ؛ فَيَعْمَلُ الْعَمَلَ أَوْ يَكْتَسِبُ الشَّيْءَ فَيَكُونُ فِيهِ وَكِيلًا عَلَى التَّفْرِقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ، وَلَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ بَلْ لَا يَجْعَلُ مِنْ ذَلِكَ حَظًّا لِنَفْسِهِ مِنَ الْحُظُوظِ؛ إِمَّا لِعَدَمِ تَذَكُّرِهِ لِنَفْسِهِ لِاطِّرَاحِ حَظِّهَا حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُنْسَى، وَإِمَّا قُوَّةُ يَقِينٍ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ حَسْبُهُ فَلَا يُخَيِّبُهُ، أَوْ عَدَمُ الْتِفَاتٍ إِلَى حَظِّهِ يَقِينًا بِأَنَّ رِزْقَهُ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ النَّاظِرُ لَهُ بِأَحْسَنِ مِمَّا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَنَفَةً مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى حَظِّهِ مَعَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، وَفِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ جَاءَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الْحَشْر: 9]. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رِضَيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ لَهَا بِمَالٍ فِي غِرَارَتَيْنِ- قَالَ الرَّاوِي: أَرَاهُ ثَمَانِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَدَعَتْ بِطَبَقٍ وَهَى يَوْمَئِذٍ صَائِمَةٌ، فَجَعَلَتْ تُقَسِّمُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَمْسَتْ وَمَا عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ دِرْهَمٌ، فَلَمَّا أَمْسَتْ قَالَتْ: يَا جَارِيَةُ هَلُمِّي أَفْطِرِي، فَجَاءَتْهَا بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ. فَقِيلَ لَهَا أَمَا اسْتَطَعْتِ فِيمَا قَسَمْتِ أَنْ تَشْتَرِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: لَا تُعَنِّينِي، لَوْ كُنْتِ ذَكَّرْتِنِي لَفَعَلْتُ. وَخَرَّجَ مَالِكٌ أَنْ مِسْكِينًا سَأَلَ عَائِشَةَ وَهَى صَائِمَةٌ وَلَيْسَ فِي بَيْتِهَا إِلَّا رَغِيفٌ؛ فَقَالَتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا: اعْطِيهِ إِيَّاهُ. فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: اعْطِيهِ إِيَّاهُ. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. [قَالَتْ]: فَمَا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٍ- مَا [كَانَ] يُهْدِي لَنَا شَاةً- وَكَفَنَهَا؛ فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ، فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا. هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ. وَرَوَى عَنْهَا أَنَّهَا قَسَّمَتْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَهِيَ تَرْقَعُ ثَوْبَهَا، وَبَاعَتْ مَا لَهَا بِمِائَةِ أَلْفِ وَقَسَّمَتْهُ، ثُمَّ أَفْطَرَتْ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ، وَهَذَا يُشْبِهُ الْوَالِي عَلَى بَعْضِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَا يَأْخُذُ إِلَّا مِنَ الْمَلِكِ، لِأَنَّهُ قَامَ لَهُ الْيَقِينُ بِقَسْمِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ مَقَامَ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ بِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرَى تَدْبِيرَ اللَّهِ لَهُ خَيْرًا مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا دَبَّرَ لِنَفْسِهِ انْحَطَّ عَنْ رُتْبَتِهِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهَا، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِدُّ نَفْسَهُ كَالْوَكِيلِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ؛ إِنِ اسْتَغْنَى اسْتَعَفَّ، وَإِنِ احْتَاجَ أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ صَرَفَهُ كَمَا يَصْرِفُ مَالَ الْيَتِيمِ فِي مَنَافِعِهِ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَالِ غَنِيًّا عَنْهُ؛ فَيُنْفِقُهُ حَيْثُ يَجِبُ الْإِنْفَاقُ، وَيُمْسِكُهُ حَيْثُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، وَإِنِ احْتَاجَ أَخَذَ مِنْهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ بِحَسَبِ مَا أُذِنَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ، وَهَذَا أَيْضًا بَرَاءَةٌ مِنَ الْحُظُوظِ فِي ذَلِكَ الِاكْتِسَابِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِحَظِّهِ لَحَابَى نَفْسَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ، بَلْ جَعَلَ نَفْسَهُ كَآحَادِ الْخَلْقِ، فَكَأَنَّهُ قَسَّامٌ فِي الْخَلْقِ يُعِدُّ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ». وَفِي حَدِيثِ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هَذَا، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ فِي مَغَازِيهِ مِنْ هَذَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَالْإِيثَارُ بِالْحُظُوظِ مَحْمُودٌ غَيْرُ مُضَادٍّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي حَالَتَيْنِ. فَهَؤُلَاءِ وَالَّذِينَ قَبْلَهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ، وَمَا أَخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ لَا يُعَدُّ سَعْيًا فِي حَظٍّ؛ إِذْ لِلْقَصْدِ إِلَيْهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنْ يُؤْثِرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هُنَا ذَلِكَ، بَلْ آثَرَ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ سِوَى نَفْسِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ هَؤُلَاءِ بُرَءَاءَ مِنَ الْحُظُوظِ، كَأَنَّهُمْ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حَظٌّ، وَتَجِدُهُمْ فِي الْإِجَارَاتِ وَالتِّجَارَاتِ لَا يَأْخُذُونَ إِلَّا بِأَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّبْحِ أَوِ الْأُجْرَةِ، حَتَّى يَكُونَ مَا حَاوَلَ أَحَدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَسْبًا لِغَيْرِهِ لَا لَهُ، وَلِذَلِكَ بَالَغُوا فِي النَّصِيحَةِ فَوْقَ مَا يَلْزَمُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُكَلَاءُ لِلنَّاسِ لَا لِأَنْفُسِهِمْ؛ فَأَيْنَ الْحَظُّ هُنَا؟ بَلْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُحَابَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ جَازَتْ كَالْغِشِّ لِغَيْرِهِمْ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَاحِقُونَ حُكْمًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، بِإِلْزَامِهِمْ أَنْفُسِهِمْ لَا بِاللُّزُومِ الشَّرْعِيِّ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ هَؤُلَاءِ، بَلْ أَخَذُوا مَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِذْنِ، وَامْتَنَعُوا مِمَّا مُنِعُوا مِنْهُ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي كُلِّ مَا لَهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ؛ فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ بِالِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ أَهْلُ حُظُوظٍ، لَكِنْ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ أَخْذُهَا، فَإِنْ قِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا: إِنَّهُ تَجَرُّدٌ عَنِ الْحَظِّ، فَإِنَّمَا يُقَالُ مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهَا بِمُجَرَّدِ أَهْوَائِهِمْ تَحَرٌّزًا مِمَّنْ يَأْخُذُهَا غَيْرَ مُلَاحِظٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذَا هُوَ الْحَظُّ الْمَذْمُومُ، إِذْ لَمْ يَقِفُ دُونَ مَا حُدَّ لَهُ، بَلْ تَجَرَّأَ كَالْبَهِيمَةِ لَا تَعْرِفُ غَيْرَ الْمَشْيِ فِي شَهَوَاتِهَا، وَلَا كَلَامَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَمْ يَتَصَرَّفْ إِلَّا لِنَفْسِهِ، فَلَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْوَالِي عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ وَالٍ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِوَالٍ عَامٍّ، وَالْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْمُبَرَّأَةُ مِنَ الْحُظُوظِ، فَالصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الْقِسْمِ مُعَامَلُونَ حُكْمًا بِمَا قَصَدُوا مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحُظُوظِ؛ فَيَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُمَا مَنْ لَا يَأْخُذُ بِتَسَبُّبٍ أَوْ يَأْخُذُ بِهِ، لَكِنْ عَلَى نِسْبَةِ الْقِسْمَةِ وَنَحْوِهَا.
الْعَمَلُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِمَّا عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذَيْنِ فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْرِيعٌ، فَلْنَضَعْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مَسْأَلَةً، فَإِذَا وَقَعَ عَلَى مُقْتَضَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ بِحَيْثُ رَاعَاهَا فِي الْعَمَلِ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ وَسَلَامَتِهِ مُطْلَقًا، فِيمَا كَانَ بَرِيئًا مِنَ الْحَظِّ وَفِيمَا رُوعِيَ فِيهِ الْحَظُّ، لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ؛ إِذْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ فِي التَّشْرِيعِ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَهَذَا كَافٍ هُنَا. وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ وَفِقْهٌ كَثِيرٌ: مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ إِذَا رُوعِيَتْ أَقْرَبُ إِلَى إِخْلَاصِ الْعَمَلِ وَصَيْرُورَتِهِ عِبَادَةً، وَأَبْعَدُ عَنْ مُشَارَكَةِ الْحُظُوظِ الَّتِي تُغَيِّرُ فِي وَجْهِ مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَظَّ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يُرَاعِيَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَظُّهُ، عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ إِثْبَاتَ الشَّرْعِ لَهُ وَإِبَاحَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ تَفَضُّلٍ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ؛ إِذْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ مُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الْعَبِيدِ، وَهُوَ أَيْضًا جَارٍ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ؛ فَمُجَرَّدُ قَصْدِ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوِ الْإِذْنِ كَافٍ فِي حُصُولِ كُلِّ غَرَضٍ، فِي التَّوَجُّهِ إِلَى مُجَرَّدِ خِطَابِ الشَّارِعِ، فَالْعَامِلُ عَلَى وَفْقِهِ مُلَبِّيًا لَهُ؛ بَرِئٌ مِنَ الْحَظِّ، وَفِعْلُهُ وَاقِعٌ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا حَوْلَهَا ثُمَّ يَنْدَرِجُ حَظُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، بَلْ هُوَ الْمُقَدَّمُ شَرْعًا عَلَى الْغَيْرِ. فَإِذَا اكْتَسَبَ الْإِنْسَانُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، أَوْ اعْتِبَارًا بِعِلَّةِ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى إِحْيَاءِ النُّفُوسِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِمَاطَةِ الشُّرُورِ عَنْهَا، كَانَ هُوَ الْمُقَدَّمُ شَرْعًا: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»، أَوْ كَانَ قِيَامُهُ بِمَا قَامَ بِهِ قِيَامًا بِوَاجِبٍ مَثَلًا، ثُمَّ نَظَرُهُ فِي ذَلِكَ الْوَاجِبِ قَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَنْ يَقْصِدُ الْقِيَامَ بِحَيَاةِ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ بِهَا، أَوْ بِحَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ نَظَرِهِ، وَقَدْ يَتَّسِعُ نَظَرُهُ فَيَكْتَسِبُ لِيُحْيِيَ بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا أَعَمٌّ الْوُجُوهِ وَأَحْمَدُهَا وَأَعْوَدُهَا بِالْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يَفُوتُهُ فِيهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَتَقَعُ نَفَقَتُهُ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ، وَيَقْصِدُ غَيْرَ مَا كَسَبَ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكِلِ التَّدْبِيرَ إِلَى رَبِّهِ، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَقَدْ جَعَلَ قَصْدَهُ وَتَصَرُّفَهُ فِي يَدِ مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِيَسِيرِهِ عَالَمٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَصْرِهِ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحَقُّقِ بِإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا يَفُوتُهُ مِنْ حَظِّهِ شَيْءٌ. بِخِلَافِ مُرَاعَاةِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ؛ فَقَدْ يَفُوتُهُ مَعَهَا جُلُّ هَذَا أَوْ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَاعِي مَثَلًا زَوَالَ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَوِ الْبَرْدِ أَوْ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ أَوِ التَّلَذُّذَ بِالْمُبَاحِ مُجَرَّدًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا؛ فَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا رُوعِيَ فِيهِ قَصْدُ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مُنْجَرٌّ مَعَهُ، وَلَوْ رُوعِيَ قَصْدُ الشَّارِعِ لَكَانَ الْعَمَلُ امْتِثَالًا؛ فَيَرْجِعُ إِلَى التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا لَمْ يُرَاعَ؛ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مُرَاعَاةُ الْحَظِّ خَاصَّةً، هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ رَاجِعَةٌ إِمَّا إِلَى مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي شَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ بِلَا شَكٍّ طَاعَةٌ لِلْأَمْرِ وَامْتِثَالٌ لِمَا أُمِرَ لَا دَاخِلَةَ فِيهِ، وَإِمَّا إِلَى مَا فُهِمَ مِنَ الْأَمْرِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ اسْتَعْمَلَهُ سَيِّدُهُ فِي سُخْرَةِ عَبِيدِهِ؛ فَجَعَلَهُ وَسِيلَةً وَسَبَبًا إِلَى وُصُولِ حَاجَاتِهِمْ إِلَيْهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ. وَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْرُجُ عَنِ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ؛ فَهُوَ عَامِلٌ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، مُسْقِطٌ لِحَظِّهِ فِيهَا؛ فَكَأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْقَائِمُ لَهُ بِحَظِّهِ، بِخِلَافِ الْعَامِلِ لِحَظِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ فَهِمَ مَقْصُودَ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ قَامَ بِهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِجْلَابِ حَظِّهِ أَوْ حَظِّ مَنْ لَهُ فِيهِ حَظٌّ؛ فَهُوَ إِنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ فَمِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَالْإِخْلَاصُ عَلَى كَمَالِهِ مَفْقُودٌ فِي حَقِّهِ، وَالتَّعَبُّدُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ مُنْتَفٍ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ؛ فَذَلِكَ أَوْضَحُ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى التَّعَبُّدِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّخِذُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَادِيَّيْنِ لَا عِبَادِيَّيْنِ، إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ حَظِّهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِمَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأُوَلِ قَائِمٌ بِعِبْءٍ ثَقِيلٍ جِدًّا، وَحِمْلٍ كَبِيرٍ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَثْبُتُ تَحْتَهُ طَالِبُ الْحَظِّ فِي الْغَالِبِ، بَلْ يَطْلُبُ حَظَّهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَالَةٌ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ شَاءَ أَوْ أَبَى، يَهْدِي اللَّهُ إِلَيْهَا مَنِ اخْتَصَّهُ بِالتَّقْرِيبِ مِنْ عِبَادِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَثْقَلَ الْأَحْمَالِ وَأَعْظَمَ التَّكَالِيفِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 5]. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ اخْتِصَاصٍ زَائِدٍ، بِخِلَافِ طَالِبِ الْحَظِّ؛ فَإِنَّهُ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ، وَغَيْرُ مُسْتَوِيَيْنِ فَاعِلٌ بِرَبِّهِ وَفَاعِلٌ بِنَفْسِهِ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ، وَالثَّانِي عَامِلٌ بِنَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ قَلَمَّا تَجِدُ صَاحِبَ حَظٍّ يَقُومُ بِتَكْلِيفٍ شَاقٍّ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَنْ يَدَّعِي تِلْكَ الْحَالَ؛ فَاطْلُبْهُ بِمَطَالِبِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَإِنْ أَوْفَى بِهِ؛ فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا؛ عَلِمْتَ أَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ قَلَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ مَا ادَّعَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَقَاصِدِ الْأُوَلِ مَحْمُولٌ؛ فَذَلِكَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْإِخْلَاصِ، وَصَاحِبُ الْحَظِّ لَيْسَ بِمَحْمُولٍ ذَلِكَ الْحِمْلِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ حَظُّهُ، فَإِذَا سَقَطَ حَظُّهُ ثَبَتَ قَصَدُهُ فِي الْمَقَاصِدِ الْأُوَلِ، وَثَبَتَ لَهُ الْإِخْلَاصُ، وَصَارَتْ أَعْمَالُهُ عِبَادَاتٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْعَى فِي حَظِّهِ وَقَدْ بَلَغَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا فِي أَهْلِ الدِّينِ، بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ، وَالنِّسَاءَ، وَالْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، وَكَانَ تُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ، وَيُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ اتِّبَاعٌ لِحَظِّ النَّفْسِ؛ إِذَا كَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِمَّا يَشْتَهِيهِ مِنَ الْحَلَالِ، بَلْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ إِذَا وَجَدَهُ، وَقَدْ بَلَغَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا فِي أَهْلِ الدِّينِ، وَهُوَ أَتْقَى الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، وَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، فَهَذَا فِي هَذَا الطَّرَفِ. وَنَرَى أَيْضًا كَثِيرًا مِمَّنْ يُسْقِطُ حَظَّ نَفْسِهِ وَيَعْمَلُ لِغَيْرِهِ أَوْ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ صَادِقًا فِي عَمَلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، كَكَثِيرٍ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَزَهَّدَ وَانْقَطَعَ عَنِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا وَلَا أَخْطَرَهَا بِبَالِهِ، وَاتَّخَذَ الْعِبَادَةَ وَالسَّعْيَ فِي حَوَائِجِ الْخَلْقِ دَأْبًا وَعَادَةً؛ حَتَّى صَارَ فِي النَّاسِ آيَةً، وَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى بَاطِلٍ مَحْضٍ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ وَسَائِطُ لَا تُحْصَى تُقَرِّبُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا زَعَمْتَ ظَوَاهِرُ، وَغَائِبَاتُ الْأُمُورِ قَدْ لَا تَكُونُ مَعْلُومَةً؛ فَانْظُرْ مَا قَالَهُ الْإِسْكَافُ فِي فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ» يَلُحْ لَكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلَعِ خِلَافُ مَا تَوَهَّمْتَ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ الصِّرْفِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ الصِّرْفِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الثَّلَاثِ الصَّلَاةَ، وَهِيَ أَعْلَى الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَهَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي سِوَاهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُبِّ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِحَظٍّ لِأَنَّ الْحُبَّ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُمْلَكُ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِيمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ فَمِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ لِمُجَرَّدِ الْحَظِّ، دُونَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِذْنِ؟ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَظِّ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فِي الْقُدْوَةِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ نَحْوُهُ فِي كُلِّ مُقْتَدًى بِهِ مِمَّنِ اشْتُهِرَتْ وِلَايَتُهُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ عَنِ الرُّهْبَانِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْحَظِّ، بَلْ هِيَ عَيْنُ الْحَظِّ، وَاسْتِهْلَاكٌ فِي هَوَى النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْرُكُ حَظَّهُ فِي أَمْرٍ إِلَى حَظٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، كَمَا تَرَى النَّاسَ يَبْذُلُونَ الْمَالَ فِي طَلَبِ الْجَاهِ؛ لِأَنَّ حَظَّ النَّفْسِ فِي الْجَاهِ أَعْلَى، وَيَبْذُلُونَ النُّفُوسَ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ حَتَّى يَمُوتُوا فِي طَرِيقِ ذَلِكَ، وَهَكَذَا الرُّهْبَانُ قَدْ يَتْرُكُونَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا لِلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّعْظِيمِ؛ فَإِنَّهَا أَعْلَى، وَحَظُّ الذِّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرِّيَاسَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْجَاهِ الْقَائِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ الْحُظُوظِ الَّتِي يُسْتَحْقَرُ مَتَاعُ الدُّنْيَا فِي جَنْبِهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَنْهِيٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ فَلَا كَلَامَ فَيمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: حُبُّ الرِّيَاسَةِ آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رُءُوسِ الصِّدِّيقِينَ، وَصَدَقُوا. وَالثَّانِي: أَنَّ طَلَبَ الْحُظُوظِ قَدْ يَكُونُ مُبَرَّءًا مِنَ الْحُظُوظِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى طَلَبِهِ أَوَّلًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرَ الشَّارِعِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ أَمْرَ الشَّارِعِ، فَهُوَ الْحَظُّ الْمُبَرَّأُ الْمُنَزَّهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ عِنْدَهُ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ، فَكَمَا يَكُونُ فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِ مُبَرَّءٌ عَنِ الْحَظِّ، كَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ، وَلَا يُعَدُّ مِثْلُ هَذَا حَظًّا وَلَا سَعْيًا فِيهِ بِحَسَبَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّابِعَ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ كَانَ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِهِ؛ فَلَهُ حُكْمُهُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَرْتَبِطْ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ سَعْيٌ فِي الْحَظِّ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ هَكَذَا. وَأَمَّا شَأْنُ الرُّهْبَانِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ فَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُمْ هَذِهِ الْحَالَةُ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةَ الْوَضْعِ؛ فَيَنْقَطِعُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَيُسْقِطُونَ حُظُوظَهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى مَعْبُودِهِمْ، وَيَعْمَلُونَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ وُجُوهِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَبَبٌ إِلَيْهِ، وَيُعَامِلُونَهُ فِي الْخَلْقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَسْبَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحِقُّ فِي الدِّينِ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَلَا أَقُولُ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُخْلِصِينَ، بَلْ هُمْ مُخْلِصُونَ إِلَى مَنْ عَبَدُوا، وَمُتَوَجِّهُونَ صِدْقًا إِلَى مَا عَامَلُوا، إِلَّا أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُونَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الْغَاشِيَة: 2- 4]، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَدُونَهُمْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَوَارِجِ مَا عَلِمْتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذِي الْخُوَيْصِرَة: «دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمُ» الْحَدِيثَ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ عِبَادَةً تُسْتَعْظَمُ وَحَالًا يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهُ، لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِهِمْ، وَيُوجَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالْإِخْلَاصُ فِي الْأَعْمَالِ إِنَّمَا يَصِحُّ خُلُوصُهُ مَعَ اطِّرَاحِ الْحُظُوظِ؛ لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ كَانَ مُنْجِيًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ فَبِالضِّدِّ، وَيَتَّفِقُ هَذَا كَثِيرًا فِي أَهْلِ الْمَحَبَّةِ؛ فَمَنْ طَالَعَ أَحْوَالَ الْمُحِبِّينَ رَأَى اطِّرَاحَ الْحُظُوظِ وَإِخْلَاصَ الْأَعْمَالِ لِمَنْ أَحَبُّوا عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَهَيَّأُ مِنَ الْإِنْسَانِ. فَإِذًا؛ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّ الْمَقَاصِدَ التَّابِعَةَ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِهِ، وَلَا أَنْفِيهِ.
وَيَظْهَرُ مِنْ هُنَا أَيْضًا أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يُصَيِّرُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِ كُلَّهَا عِبَادَاتٍ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا فَهِمَ مُرَادَ الشَّارِعِ مِنْ قِيَامِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَخَذَ فِي الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى مَا فَهِمَ، فَهُوَ إِنَّمَا يَعْمَلُ مِنْ حَيْثُ طُلِبَ مِنْهُ الْعَمَلُ، وَيَتْرُكُ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ التَّرْكُ فَهُوَ أَبَدًا فِي إِعَانَةِ الْخَلْقِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ. أَمَّا بِالْيَدِ؛ فَظَاهِرٌ فِي وُجُوهِ الْإِعَانَاتِ. وَأَمَّا بِاللِّسَانِ؛ فَبِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونُوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مُطِيعِينَ لَا عَاصِينَ، وَتَعْلِيمُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَقَاصِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِالدُّعَاءِ بِالْإِحْسَانِ لِمُحْسِنِهِمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَبِالْقَلْبِ لَا يُضْمِرُ لَهُمْ شَرًّا، بَلْ يَعْتَقِدُ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَيُعَرِّفُهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَوْصَافِ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا وَلَوْ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، وَيُعَظِّمُهُمْ وَيَحْتَقِرُ نَفْسَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِبَادِ. بَلْ لَا يَقْتَصِرُ فِي هَذَا عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الشَّفَقَةُ عَلَى الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا، حَتَّى لَا يُعَامِلَهَا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»، وَحَدِيثُ تَعْذِيبِ الْمَرْأَةِ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، وَحَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ؛ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» الْحَدِيثَ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَالْعَامِلُ بِالْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَامِلٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فِي نَفْسِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَكَيْفَ لَا تَكُونُ تَصَارِيفُ مَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ عِبَادَةً كُلَّهَا؟ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ عَامِلًا عَلَى حَظِّهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَلْتَفِتُ إِلَى حَظِّهِ أَوْ مَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى حَظِّهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ هُوَ عَامِلٌ فِي مُبَاحٍ إِنْ لَمْ يُخِلَّ بِحَقِّ اللَّهِ أَوْ بِحَقِّ غَيْرِهِ فِيهِ، وَالْمُبَاحُ لَا يُتَعَبَّدُ إِلَى اللَّهِ بِهِ، وَإِنْ فَرَضْنَاهُ قَامَ عَلَى حَظِّهِ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُ الشَّارِعُ؛ فَهُوَ عِبَادَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِنْ فَرَضْتَهُ كَذَلِكَ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ دَاعِيَةِ حَظِّهِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يَنْقُلُ الْأَعْمَالَ فِي الْغَالِبِ إِلَى أَحْكَامِ الْوُجُوبِ؛ إِذِ الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ دَائِرَةٌ عَلَى حُكْمِ الْوُجُوبِ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ حِفْظًا لِلْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ فِي الدِّينِ الْمُرَاعَاةِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ؛ صَارَتِ الْأَعْمَالُ الْخَارِجَةُ عَنِ الْحَظِّ دَائِرَةً عَلَى الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالْكُلِّ، وَهَذَا عَامِلٌ بِالْكُلِّ فِيمَا هُوَ مَنْدُوبٌ بِالْجُزْءِ أَوْ مُبَاحٌ يَخْتَلُّ النِّظَامُ بِاخْتِلَالِهِ؛ فَقَدْ صَارَ عَامِلًا بِالْوُجُوبِ. فَأَمَّا الْبِنَاءُ عَلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ؛ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْحَظِّ الْجُزْئِيِّ، وَالْجُزْئِيُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، فَالْبِنَاءُ عَلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ مُبَاحًا؛ إِمَّا بِالْجُزْءِ، وَإِمَّا بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ مَعًا، وَإِمَّا مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَكْرُوهًا، أَوْ مَمْنُوعًا بِالْكُلِّ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ إِذَا تَحَرَّاهُ الْمُكَلَّفُ يَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ إِلَى كُلِّ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ فِي الْعَمَلِ مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءِ مَفْسَدَةٍ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِهِ إِنَّمَا قَصْدُهُ تَلْبِيَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ؛ إِمَّا بَعْدَ فَهْمِ مَا قَصَدَ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ قَاصِدٌ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أَعَمُّ الْمَقَاصِدِ وَأَوَّلُهَا، وَأَنَّهُ نُورٌ صِرْفٌ لَا يَشُوبُهُ غَرَضٌ وَلَا حَظٌّ؛ كَانَ الْمُتَلَقِّي لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ آخِذًا لَهُ زَكِيًّا وَافِيًا كَامِلًا، غَيْرَ مَشُوبٍ وَلَا قَاصِرٍ عَنْ مُرَادِ الشَّارِعِ؛ فَهُوَ حُرٌّ أَنْ يَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ. وَأَمَّا الْقَصْدُ التَّابِعُ؛ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْحَظِّ أَوْ أَخْذَ الْعَمَلِ بِالْحَظِّ قَدْ قَصَرَهُ قَصْدُ الْحَظِّ عَنْ إِطْلَاقِهِ، وَخَصَّ عُمُومَهُ؛ فَلَا يَنْهَضُ نُهُوضَ الْأَوَّلِ. شَاهِدُهُ قَاعِدَةُ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ؛ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ»؛ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْحَدِيثَ لِصَاحِبِ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِارْتِبَاطِهَا سَبِيلَ اللَّهِ، وَهَذَا عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ، فَكَانَ أَجْرُهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ عَامًا أَيْضًا غَيْرَ خَاصٍّ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا؛ فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ»، فَهَذَا فِي صَاحِبِ الْحَظِّ الْمَحْمُودِ لَمَّا قَصَدَ وَجْهًا خَاصًّا وَهُوَ حَظُّهُ؛ كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى مَا قَصَدَ، وَهُوَ السَّتْرُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْقَصْدِ التَّابِعِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ»؛ فَهَذَا فِي الْحَظِّ الْمَذْمُومِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ أَصْلِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَلَا كَلَامَ فِيهِ هُنَا. وَيَجْرِي مَجْرَى الْعَمَلِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِالصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ، لِأَنَّ مَا قَصَدُوا يَشْمَلُهُ قَصْدُ الْمُقْتَدِي فِي الِاقْتِدَاءِ، وَشَاهِدُهُ الْإِحَالَةُ فِي النِّيَّةِ عَلَى نِيَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي إِحْرَامِه: بِمَا أَحْرَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ حُجَّةً فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ يُصَيِّرُ الطَّاعَةَ أَعْظَمَ، وَإِذَا خُولِفَتْ كَانَتْ مَعْصِيَتُهَا أَعْظَمَ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْعَامِلَ عَلَى وَفْقِهَا عَامِلٌ عَلَى الْإِصْلَاحِ [الْعَامِّ] لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا قَاصِدٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ وَإِمَّا قَاصِرٌ نَفْسَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ قَصْدِهِ كُلُّ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَإِذَا فَعَلَ [ذَلِكَ] جُوزِيَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أَحْيَاهَا، وَعَلَى كُلِّ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ قَصَدَهَا، وَلَا شَكَّ فِي عِظَمِ هَذَا الْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ أَحْيَا النَّفْسَ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَكَانَ الْعَالِمُ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْمَاءِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَعْمَلْ عَلَى وَفْقِهِ، فَإِنَّمَا يَبْلُغُ ثَوَابُهُ مَبْلَغَ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَمَتَى كَانَ قَصْدُهُ أَعَمَّ؛ كَانَ أَجْرُهُ أَعْظَمَ، وَمَتَى لَمْ يَعُمَّ قَصْدُهُ؛ لَمْ يَكُنْ أَجْرُهُ إِلَّا عَلَى وِزَانِ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَامِلٌ عَلَى الْإِفْسَادِ الْعَامِّ، وَهُوَ مُضَادٌّ لِلْعَامِلِ عَلَى الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ قَصْدَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ يَعْظُمُ بِهِ الْأَجْرُ؛ فَالْعَامِلُ عَلَى ضِدِّهِ يَعْظُمُ بِهِ وِزْرُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ وِزْرِ كُلِّ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ الْمُحَرَّمَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَكَانَ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَ«مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا».
وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ أُصُولَ الطَّاعَاتِ وَجَوَامِعَهَا إِذَا تُتُبِّعَتْ وُجِدَتْ رَاجِعَةً إِلَى اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَبَائِرُ الذُّنُوبِ إِذَا اعْتُبِرَتْ وُجِدَتْ فِي مُخَالَفَتِهَا، وَيَتَبَيَّنُ لَكَ بِالنَّظَرِ فِي الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَمَا أُلْحِقَ بِهَا قِيَاسًا؛ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ مُطَّرِدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْعَمَلُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ تُصَاحِبَهُ الْمَقَاصِدُ الْأَصْلِيَّةُ، أَوْ لَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَعَمَلٌ بِالِامْتِثَالِ بِلَا إِشْكَالٍ، وَإِنْ كَانَ سَعْيًا فِي حَظِّ النَّفْسِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَعَمَلٌ بِالْحَظِّ وَالْهَوَى مُجَرَّدًا. وَالْمُصَاحَبَةُ إِمَّا بِالْفِعْلِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: هَذَا الْمَأْكُولُ، أَوْ هَذَا الْمَلْبُوسُ، أَوْ هَذَا الْمَلْمُوسُ، أَبَاحَ لِيَ الشَّرْعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ؛ فَأَنَا أَسْتَمْتِعُ بِالْمُبَاحِ وَأَعْمَلُ بِاسْتِجْلَابِهِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَإِمَّا بِالْقُوَّةِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي التَّسَبُّبِ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَاحِ مِنَ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لَكِنَّ نَفْسَ الْإِذْنِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، وَإِنَّمَا خَطَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّرِيقِ الْفُلَانِيِّ، فَإِذَا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْهُ فَهَذَا فِي الْحُكْمِ كَالْأَوَّلِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ الَّتِي تُوصِّلُ إِلَى الْمُبَاحِ مِنْ جِهَتِهِ مُبَاحًا؛ إِلَّا أَنَّ الْمُصَاحَبَةَ بِالْفِعْلِ أَعْلَى، وَيَجْرِي غَيْرُ الْمُبَاحِ مَجْرَاهُ فِي الصُّورَتَيْنِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَبَيَانُ كَوْنِهِ عَامِلًا بِالْحَظِّ وَالِامْتِثَالِ أَمْرَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْرٍ عَادِيٍّ حَتَّى يَكُونَ الْقَصْدُ فِي تَصَرُّفِهِ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ فِي حَظِّ نَفْسِهِ وَلَا قَصْدٍ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَ يَمْتَنِعُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ هَذِهِ النِّيَّةَ وَيَعْمَلَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الْحَظِّ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ، وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَهَى عَنْ قَصْدِ الْحُظُوظِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ عَلَى حَالٍ مَعَ قَصْدِ الشَّارِعِ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ وَعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، وَأَنْ لَا يلْحَظَ فِيهَا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ لِلْحَظِّ فِي الْأَعْمَالِ إِذَا كَانَتْ عَادِيَّةً لَا يُنَافِي أَصْلَ الْأَعْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى قَصْدُ الشَّارِعِ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ وَعَدَمُ التَّشْرِيكِ فِيهَا؟ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً عَلَى مُقْتَضَى الْمَشْرُوعِ، لَا يُقْصَدُ بِهَا عَمَلٌ جَاهِلِيٌّ، وَلَا اخْتِرَاعٌ شَيْطَانِيٌّ، وَلَا تَشَبُّهٌ بِغَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ؛ كَشُرْبِ الْمَاءِ أَوِ الْعَسَلِ فِي صُورَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ مَا صُنِعَ لِتَعْظِيمِ أَعْيَادِ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى وَإِنْ صَنَعَهُ الْمُسْلِمُ، أَوْ مَا ذُبِحَ عَلَى مُضَاهَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَوْعٌ مِنْ تَعْظِيمِ الشِّرْكِ. كَمَا رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ أَجْرَى عَيْنًا، فَقَالَ لَهُ الْمُهَنْدِسُونَ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَاء: لَوْ أَهْرَقْتَ عَلَيْهَا دَمًا كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا تَغِيضَ وَلَا تَهُورَ فَتَقْتُلَ مَنْ يَعْمَلُ فِيهَا، فَنَحَرَ جَزَائِرَ حِينَ أُرْسِلَ الْمَاءُ فَجَرَى مُخْتَلِطًا بِالدَّمِ، وَأَمَرَ فَصُنِعَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْهَا طَعَامٌ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ الْعُمَّالِ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا صَنَعَ، مَا حَلَّ لَهُ نَحْرُهَا وَلَا الْأَكْلُ مِنْهَا، أَمَا بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُذْبَحَ لِلْجِنِّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا وَإِنْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُضَاهٍ لِمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَسَائِرِ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ مُعَاقَرَةِ الْأَعْرَابِ، وَهِيَ أَنْ يَتَبَارَى الرَّجُلَانِ فَيَعْقِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، يُجَاوِدُ بِهِ صَاحِبَهُ؛ فَأَكْثَرُهُمَا عَقْرًا أَجْوَدُهُمَا، نَهَى عَنْ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ بِحَضْرَةِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ عِنْدَ قُدُومِهِمُ الْبُلْدَانَ، وَأَوَانِ حَوَادِثَ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ، وَهُمَا الْمُتَعَارِضَانِ لِيُرَى أَيُّهُمَا يَغْلِبُ صَاحِبَهُ؛ فَهَذَا وَمَا كَانَ نَحْوَهُ إِنَّمَا شُرِعَ عَلَى جِهَةِ أَنْ يُذْبَحَ عَلَى الْمَشْرُوعِ بِقَصْدِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ، فَإِذَا زِيدَ فِيهِ هَذَا الْقَصْدُ؛ كَانَ تَشْرِيكًا فِي الْمَشْرُوعِ، وَلَحْظًا لِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا وَقَعَتْ الْفُتْيَا مِنِ ابْنِ عَتَّابٍ بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ اللُّحُومِ فِي النَّيْرُوزِ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: إِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَصْدُ الْحَظِّ مِمَّا يُنَافِي الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ؛ لَكَانَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ رَجَاءً فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ دُخُولِ النَّارِ عَمَلًا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا؛ فَيَبْطُلُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ. أَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ؛ فَلِأَنَّ طَلَبَ الْجَنَّةِ أَوِ الْهَرَبَ مِنَ النَّارِ سَعْيٌ فِي حَظٍّ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ الشَّارِعُ وَأَذِنَ لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَظٌّ؛ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَاجِلٌ وَالْآخَرَ آجِلٌ، وَالتَّعْجِيلُ وَالتَّأْجِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرْدِيٌّ كَالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ فِي الدُّنْيَا لَا مُنَافَسَةَ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ الْآجِلِ سَائِغًا كَانَ طَلَبُ الْعَاجِلِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ سَائِغًا. وَأَمَّا بُطْلَانُ التَّالِي؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَاءَ بِأَنَّ مَنْ عَمِلَ جُوزِيَ، وَاعْمَلُوا يُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ، وَاتْرُكُوا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَا تَعْمَلُوا كَذَا فَتَدْخُلُوا النَّارَ، وَمَنْ يَعْمَلْ كَذَا يُجْزَ بِكَذَا، وَهَذَا بِلَا شَكٍّ تَحْرِيكٌ عَلَى الْعَمَلِ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ، فَلَوْ كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ قَادِحًا فِي الْعَمَلِ لَكَانَ الْقُرْآنُ مُذَكِّرًا بِمَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَيُبْعِدُ مِنَ النَّارِ؛ فَيُخْبِرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِرَازٍ وَلَا تَحْذِيرٍ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ قَالَ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الْإِنْسَان: 9]. بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الْإِنْسَان: 10]. وَفِي الْحَدِيث: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعَمَلِ عَلَى الْحَظِّ. وَفِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْأَنْصَارِ قَوْلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ. فَلَمَّا اشْتَرَطَ؛ قَالُوا: فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ» الْحَدِيثَ. وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَجَمِيعُهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَظِّ، وَإِنْ لَمْ يَقُل: اعْمَلْ لِكَذَا؛ فَقَدْ قَالَ: اعْمَلْ يَكُنْ لَكَ كَذَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ قَادِحًا فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ قَادِحًا فِي الْعَادَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مِثْلُ هَذَا قَادِحٌ فِي الْعَمَلِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْمَعْقُولُ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِقَصْدِ الْحَظِّ قَدْ جَعَلَ حَظَّهُ مَقْصِدًا وَالْعَمَلَ وَسِيلَةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصِدًا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا بِالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، هَذَا خُلْفٌ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَسِيلَةً لَمْ يُطْلَبِ الْحَظُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ حَظُّهُ؛ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْحَظِّ وَسِيلَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَسَائِلَ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْمَقَاصِدِ بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَتِ الْمَقَاصِدُ سَقَطَتِ الْوَسَائِلُ، وَبِحَيْثُ لَوْ تُوُصِّلَ إِلَى الْمَقَاصِدِ دُونَهَا لَمْ يُتَوَسَّلْ بِهَا، وَبِحَيْثُ لَوْ فَرَضْنَا عَدَمَ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً لَمْ يَكُنْ لِلْوَسَائِلِ اعْتِبَارٌ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ كَالْعَبَثِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَعْمَالُ الْمَشْرُوعَةُ إِذَا عُمِلَتْ لِلتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى حُظُوظِ النُّفُوسِ، فَقَدْ صَارَتْ غَيْرَ مُتَعَبَّدٍ بِهَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْحَظِّ، فَالْحَظُّ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَمَلِ لَا التَّعَبُّدُ، فَأَشْبَهَتِ الْعَمَلَ بِالرِّيَاءِ لِأَجْلِ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْأَعْمَالُ الْمَأْذُونُ فِيهَا كُلُّهَا يَصِحُّ التَّعَبُّدُ بِهَا إِذَا أُخِذَتْ مِنْ حَيْثُ أُذِنَ فِيهَا، فَإِذَا أُخِذَتْ مِنْ جِهَةِ الْحُظُوظِ سَقَطَ كَوْنُهَا مُتَعَبَّدًا بِهَا؛ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالْمُتَعَبَّدِ بِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَشْبَاهِهِمَا، يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ التَّعَبُّدُ بِهَا، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ عَادَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ مَأْمُورٌ بِهِ؛ فَحَظُّ النَّفْسِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِذَا أُخِذَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِهِ سَقَطَ كَوْنُهُ عِبَادَةً؛ فَصَارَ مُهْمَلَ الِاعْتِبَارِ فِي الْعِبَادَةِ، فَبَطُلَ التَّعَبُّدُ فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ غَيْرَ صَحِيحٍ. وَأَيْضًا؛ فَهَذَا الْمَأْمُورُ أَوِ الْمَنْهِيُّ بِمَا فِيهِ حَظُّهُ، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي كَانَ يَصْنَعُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَرِيٌّ عَنِ الْحُظُوظِ؟! هَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ فَالْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِلَا بُدٍّ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ لَا وَسِيلَةٌ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ الْقَائِلُ بِقَوْلِه: هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسْلُهُ *** وَجَاحِمَةَ النَّارِ لَمْ تُضْرَمِ أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ *** ثَنَاءُ الْعِبَادِ عَلَى الْمُنْعِمِ وَيَعْنِي بِالْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، فَإِذَا جُعِلَ وَسِيلَةً؛ أُخْرِجَ عَنْ مُقْتَضَى الْمَشْرُوعِ، وَصَارَ الْعَمَلُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى غَيْرِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ، وَالْقَصْدُ الْمُخَالِفُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بَاطِلٌ، وَالْعَمَلُ الْمَبْنِيُّ، عَلَيْهِ مِثْلُهُ؛ فَالْعَمَلُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْحَظِّ كَذَلِكَ. وَإِلَى هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ حَقٌّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهُ وَلَا أَنْ يَسْقِيَهُ وَلَا أَنْ يُنَعِّمَهُ، بَلْ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ بِحَقِّ الْمُلْكِ، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَام: 149]؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّعَبُّدِ؛ فَحَقُّهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ حَظٍّ، فَإِنَّ طَلَبَ الْحَظِّ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِحُقُوقِ السَّيِّدِ بَلْ بِحُظُوظِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النَّظَرِ؛ فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى إِخْلَاصِ الْأَعْمَالِ لِلَّهِ، وَعَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ مِنْهَا؛ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الْبَيِّنَة: 5]. وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْف: 110]. وَفِي الْحَدِيث: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ». وَفِيه: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ شَيْءٌ، فَإِنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ عُقِلَ مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ؛ فَفِيهِ تَعَبُّدٌ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَالْعَامِلُ لِحَظِّهِ مُسْقِطٌ لِجَانِبِ التَّعَبُّدِ، وَلِذَلِكَ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْعَامِلَ لِلْأَجْرِ خَدِيمَ السُّوءِ وَعَبْدَ السُّوءِ، وَفِي الْآثَارِ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ، وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَر: 3]. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ عَدَّ النَّاسُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ قَادِحٌ فِي الْإِخْلَاصِ وَمُدْخَلٌ لِلشَّوْبِ فِي الْأَعْمَالِ؛ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: كُلُّ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِذَا تَطَرَّقَ إِلَى الْعَمَلِ، تَكَدَّرَ بِهِ صَفْوُهُ، وَقَلَّ بِهِ إِخْلَاصُهُ. قَالَ: وَالْإِنْسَانُ مُنْهَمِكٌ فِي حُظُوظِهِ وَمُنْغَمِسٌ فِي شَهَوَاتِهِ، قَلَّمَا يَنْفَكُّ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَعِبَادَةٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ عَنْ حُظُوظٍ مَا وَأَغْرَاضٍ عَاجِلَةٍ [مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ]، وَلِذَلِكَ [قِيلَ]: مَنْ سَلِمَ لَهُ فِي عُمْرِهِ خَطْرَةٌ وَاحِدَةٌ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ نَجَا، وَذَلِكَ لِعِزِّ الْإِخْلَاصِ، وَعُسْرِ تَنْقِيَةِ الْقَلْبِ عَنْ هَذِهِ الشَّوَائِبِ، بَلِ الْخَالِصُ هُوَ الَّذِي لَا بَاعِثَ فِيهِ إِلَّا طَلَبُ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا الْإِخْلَاصُ تَخْلِيصُ الْعَمَلِ عَنْ هَذِهِ الشَّوَائِبِ كُلِّهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، حَتَّى يَتَجَرَّدَ فِيهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ؛ فَلَا يَكُونُ فِيهِ بَاعِثٌ سِوَاهُ. قَالَ: وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنْ مُحِبٍّ لِلَّهِ مُسْتَهْتِرٍ، مُسْتَغْرِقِ الْهَمِّ بِالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِـ[حُبِّ] الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ قَرَارٌ، حَتَّى لَا يُحِبُّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ أَيْضًا، بَلْ تَكُونُ رَغْبَتُهُ فِيهِ كَرَغْبَتِهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَرُورَةُ الْجِبِلَّةِ؛ فَلَا يَشْتَهِيَ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ طَعَامٌ، بَلْ لِأَنَّهُ يُقَوِّيهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَيَتَمَنَّى [أَنْ] لَوْ كُفِيَ شَرَّ الْجُوعِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى الْأَكْلِ؛ فَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ حَظٌّ فِي الْفُضُولِ الزَّائِدَةِ عَلَى الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ مَطْلُوبًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَضَى حَاجَتَهُ؛ كَانَ خَالِصَ الْعَمَلِ صَحِيحَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، فَلَوْ نَامَ مَثَلًا لِيُرِيحَ نَفْسَهُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الْعِبَادَةِ بَعْدَهُ؛ كَانَ نَوْمُهُ عِبَادَةً وَحَازَ دَرَجَةَ الْمُخْلِصِينَ، وَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَبَابُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ كَالْمَسْدُودِ عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ.. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى بَاقِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَهُ فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَوَاضِعُ يَعْرِفُهَا مِنْ زَوَالِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَامِلُ الْمُلْتَفِتُ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا تَعَبَّدَ الْعِبَادُ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: الْعِبَادَاتُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ بِالْأَصَالَةِ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَتَوَابِعُهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: الْعَادَاتُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ الَّتِي فِي الْتِزَامِهَا نَشْرُ الْمَصَالِحِ بِإِطْلَاقٍ، وَفِي مُخَالَفَتِهَا نَشْرُ الْمَفَاسِدِ بِإِطْلَاقٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْقِسْمُ الدُّنْيَوِيُّ الْمَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ حَقُّ اللَّهِ مِنَ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَشْرُوعُ لِمَصَالِحِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَظُّ الْمَطْلُوبُ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا. فَإِنْ كَانَ أُخْرَوِيًّا؛ فَهَذَا حَظٌّ قَدْ أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ شَرْعًا؛ فَطَلَبُهُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ صَحِيحٌ، إِذْ لَمْ يَتَعَدَّ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، وَلَا أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ غَيْرَهُ، وَلَا قَصَدَ مُخَالَفَتَهُ؛ إِذْ قَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّارِعِ حِينَ رَتَّبَ عَلَى الْأَعْمَالِ جَزَاءً أَنَّهُ قَاصِدٌ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ؛ فَصَارَ الْعَامِلُ لِيَقَعَ لَهُ الْجَزَاءُ عَامِلًا لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي إِخْلَاصِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ وَالْعَمَلَ الْمُوصِلَ مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا مَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} إِلَى قَوْلِه: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الْآيَةَ [الصَّافَّات: 40- 43]. فَإِذَا كَانَ قَدْ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ الْمُخْلَصِ- وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُخْلَصًا أَنْ لَا يُشْرِكَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ؛ فَهَذَا قَدْ عَمِلَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، وَطَلَبُ الْحَظِّ لَيْسَ بِشِرْكٍ، إِذْ لَا يُعْبَدُ الْحَظُّ نَفْسُهُ، وَإِنَّمَا يُعْبَدُ مَنْ بِيَدِهِ بَذْلُ الْحَظِّ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنْ لَوْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ مَنْ ظَنَّ بِيَدِهِ بَذْلُ حَظٍّ مَا مِنَ الْعِبَادِ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْرَكَ، حَيْثُ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا فِيهِ شِرْكٌ، وَلَا يَرْضَى بِالشِّرْكِ، وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَ الْحَظِّ الْأُخْرَوِيِّ فِي الْعِبَادَةِ لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ فِيهَا، بَلْ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يُوصِلُهُ إِلَى حَظِّهِ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى؛ فَذَلِكَ بَاعِثٌ لَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ، قَوِيٌّ لِعِلْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْقَطِعُ طَلَبُهُ لِلْحَظِّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ أَقْصَى حُظُوظِ الْمُحِبِّينَ التَّنَعُّمُ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَحْبُوبِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ مِنْهُ، وَالتَّلَذُّذُ بِمُنَاجَاتِهِ، وَذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مَا فِي الدَّارَيْنِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوت: 6]. وَإِلَى هَذَا فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ نَادِرٌ قَلِيلٌ إِنْ وُجِدَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالْإِخْلَاصِ، وَالْإِخْلَاصُ الْبَرِيءُ عَنِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ عَسِيرٌ جِدًّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا خَوَاصُّ الْخَوَاصِّ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَطْلُوبُ قَرِيبًا مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذَا شَدِيدٌ. وَعَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَظٍّ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْحُظُوظِ صِفَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَمَنِ ادَّعَاهُ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ- يَعْنِي الصُّوفِيَّةَ- الْبَرَاءَةَ عَمَّا يُسَمِّيهِ النَّاسُ حُظُوظًا، وَذَلِكَ الشَّهَوَاتُ الْمَوْصُوفَةُ فِي الْجَنَّةِ فَقَطْ، فَأَمَّا التَّلَذُّذُ بِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ؛ فَهَذَا حَظُّ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا لَا يَعُدُّهُ النَّاسُ حَظًّا، بَلْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ لَوْ عُوِّضُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ لَذَّةِ الطَّاعَةِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَمُلَازِمَةِ الشُّهُودِ لِلْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ سِرًّا وَجَهْرًا نَعِيمَ الْجَنَّةِ، لَاسْتَحْقَرُوهَا وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا؛ فَحَرَكَتُهُمْ لِحَظٍّ، وَطَاعَتُهُمْ لِحَظٍّ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ مَعْبُودُهُمْ دُونَ غَيْرِهِ.. هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ إِثْبَاتٌ لِأَعْظَمِ الْحُظُوظِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَسْبِقُ لَهُ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ الْحَظَّ، فَإِذَا أُمِرَ أَوْ نُهِيَ لَبَّى قَبْلَ حُضُورِ الْحَظِّ، فَهُمْ عَامِلُونَ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالْحَظِّ، وَأَصْحَابُ هَذَا الضَّرْبِ عَلَى دَرَجَاتٍ، وَلَكِنَّ الْحَظَّ لَا يَرْتَفِعُ خُطُورُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِلَّا نَادِرًا، وَلَا مَقَالَ فِي صِحَّةِ إِخْلَاصِ هَؤُلَاءِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَسْبِقُ لَهُ الْحَظُّ الِامْتِثَالَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْأَمْرَ أَوِ النَّهْيَ خَطَرَ لَهُ الْجَزَاءُ، وَسَبَقَ لَهُ الْخَوْفُ أَوِ الرَّجَاءُ، فَلَبَّى دَاعِيَ اللَّهِ، فَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مُخْلِصُونَ أَيْضًا؛ إِذْ طَلَبُوا مَا أُذِنَ لَهُمْ فِي طَلَبِهِ، وَهَرَبُوا عَمَّا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْهَرَبِ عَنْهُ، مِنْ حَيْثُ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ عَمَّا تَقَدَّمَ.
|